المستقبل لليبرالية
نزار قاسم محمد
لقد كان معظم مراقبي السياسات الدولية في النصف الثاني من القرن المنصرم يؤمنون بما كان يتصدر جميع برامج وبيانات دول الكتلة الشرقية والأحزاب الشيوعية في العالم من تأكيد على أن سمة العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية . أما بعد انهيار الكتلة فإن غالبية كبيرة تؤكد أن سمة العصر هي انتقال دول العالم إلى الليبرالية، أي الأسلوب الديمقراطي في المجال السياسي وآليات السوق الحر في المجال الاقتصادي وحقوق الإنسان كما جاءت في المواثيق الدولية في المجال الإنساني الاجتماعي والثقافي. الا ان هناك عدداً محدوداً من الدول
تتناقص أعدادها باطراد ، لا تزال تتشبث بالمناهج والمفاهيم القديمة في مواجهة التيار الجارف للانتقال لليبرالية ربما في محاولة لتأخير انهيار أنظمتها. وإذا كان ممكناً في "العصر الاشتراكي" لبعض الدول أن تستمر بمعزل عن التطور العالمي، ففي ظل النظام العالمي الجديد، فإن انعزال الدول الشمولية عن مجتمع دولي يترابط باستمرار، ممكن فقط بنقل دولهم إلى كوكب آخر، وهو أمر من رابع المستحيلات. ان الذرائع لعدم الالتحاق بركب الحداثة في مجتمعاتنا، هي رفض الحضارة الغربية برغم أنها أثبتت نجاحها في إيجاد السبل لحل المشكلات البشرية ورفع درجة معيشة الإنسان على الكوكب في مجالات لا يمكن انكارها، فتهمة التغريب تخفي رفض الآخر الإنساني المتقدم واعتباره عدواً: معسكر الكفر للإسلاميين المتطرفين، والرأسمالية المتوحشة للاشتراكيين، والإمبريالية للقوميين والوطنيين المتطرفين. فالتغريب الوحيد المقبول هو استهلاك المنتجات التكنولوجية للغرب مع رفض اقتباس المناهج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سمحت بإنتاجها لفائدة البشرية.
ان الليبرالية أسلوب في الحياة لا يقتصر على الجانب الاقتصادي كما يحاول أن يصوره البعض، كما لا يقتصر على الجانب السياسي كما يعتقد البعض الآخر، وهي ليست أيديولوجيا مسبقة يسعى معتنقوها لهندسة المجتمعات حسب نصوصها، بل هي برامج متطورة في شتى المجالات تتعامل بعقلانية مع الوقائع القائمة على أساس تحقيق المصلحة الإنسانية المتوازنة، في ظل حريات واسعة فردية وجماعية وتعددية، وحوار للتوصل لمصالح مشتركة. والتيار الليبرالي لا يجمعه حزب واحد أو برنامج سياسي واحد بل برامج يجمعها التمسك بالحريات
والانفتاح على الآراء المتنوعة ورفض الأيديولوجيات الجامدة والأصوليات المتخلفة فالنموذج الذي تسعى للاقتراب منه هو المجتمعات الحديثة، مجتمعات الحريات وحقوق الإنسان والسلم
والوفرة والتنمية البشرية والمادية والمعرفية. لا يمكن الفصل بين الجانبين الاقتصادي السياسي
لليبرالية، إذ أن الأخذ بديمقراطية سياسية مع استمرار اقتصاد الدولة يتناقض مع الوقائع، الليبرالية السياسية تعني أن من حق الأغلبية في المجالس التشريعية سن القوانين التي تؤمن حرية السوق والمبادرة الفردية والمنافسة الحرة، التي ثبت أنها المحرك الأساسي للتقدم الذي يشمل الجميع. كما أنه لا يمكن الأخذ بليبرالية اقتصادية في ظل نظام سياسي شمولي يعيق
التطور الاقتصادي ويحصره في صالح القلة المحتكرة للسلطة. والليبرالية لم تعد المنهج السياسي والاقتصادي للطبقة الرأسمالية الصناعية والتجارية والمالية، كما كانت عند نشأتها في القرن التاسع عشر عندما كانت الحريات السياسية محدودة وحق الاقتراع محصوراً في الطبقات
العليا للمجتمع، وهي الفترة التي يعود إليها اشتراكيون معاصرون ليدّعوا أن الليبرالية تعمل لمصلحة الطبقة البرجوازية التي تنتفع من الحريات لزيادة هيمنتها على الثروة والسلطة،كما أن مرحلة طويلة من النضال السياسي والاجتماعي والنقابي بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين مكنت الفئات ذات الدخل المحدود من الحصول على حقوقها السياسية
والاجتماعية بحيث أصبحت الحريات مصلحة عامة للمجتمع بأسره وأداة للوصول للحقوق
الاجتماعية وليس إلغاء الليبرالية لمصلحتها،والليبرالية لم تعد تترك الفرد دون حماية من استغلال القوى الاقتصادية، بينما في ظل "رأسمالية الدولة" تنعدم إمكانية احتجاج أكثريةالمجتمع على أوضاعها البائسة. ان جزءاً من المعارضة الحالية للأنظمة الشمولية ما زال يعارض التحول لليبرالية ويعادي رموزها ولفهم هذا الموقف نرى ان هذه القوى لا تزال تتمسك بثوابت قديمة مع تجاهل المتغيرات المحلية والعالمية كتأييد القطاع العام مع إصلاحه –المستحيل عملياً- اوالاحتفاظ بالقطاع العام وتأييد دور القطاع الخاص. وتفضل هذه المعارضة المفاهيم السابقة بحجة انها اكثر قبولاً في مجتمعات متأخرة خضعت لعقود من التجهيل المدعوم بالقمع وذلك لكي يتخلوا عن الدور التنويري المنوط بها لنشر الأفكار والمناهج الحديثة في الأوساط الشعبية حتى لو تعارضت مع المفاهيم المتخلفة السائدة ، وهي مهمة عسيرة لكنها ممكنة والمستقبل أمامها. وهي المهمة التي يسعى التيار الليبرالي لتحمل مسؤوليتها وإنجازها بالوسائل السلمية والعلنية في إطار التعددية، دون التعارض العدائي مع المعارضة الديمقراطية القديمة، بحيث يمكن أن يحدث تأثيراً في صفوفها لتوليد ليبراليين وإسلاميين وحتى اشتراكيين ليبراليين . يمكن للتيار الليبرالي أن يكتسب شرعية من كونه تياراً واقعياً نهضوياًً يرى أن الحرية الحاجة الأولى للإنسان وحدود الوطن هي حدود المواطن الحر، وأن معيار الوطنية مدى احترام حقوق الإنسان وليس السياسة الخارجية، وأن العلمانية الإطار الذي يجمع المكونات الطائفية المختلفة، وأن القومية لا تعني تذويب وتعريب وتهجير الشعوب المتعايشة مع العرب، فيرى تأييد حقوقها القومية والثقافية، ويسعى للسلام القائم على إنهاء الحروب التي استنفدت موارد المنطقة، ويتخذ موقفاً عقلانياً من العولمة لتعزيز جوانبها الإنسانية والتقليل من تأثير جوانبها السلبية، ولا يرى في الغرب شراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً بل سياسات متعددة ومتغيرة يقبل ما هو في مصلحة المنطقة منها ويرفض ما يضر بها، ويؤيد التلازم بين اقتصاد السوق الحر والديمقراطية السياسية، ويعمل لضمانات اجتماعية لذوي الدخل المحدود ويضع التنمية على رأس أولوياته من أجل مجتمعات عصرية قوية تساهم بنصيبها في الحضارة العالمية.
ان المستقبل لليبرالية في المنطقة ولا يمكن الخشية من عدم تقبل المجتمعات المتخلفة أفكار الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فوجود نخب متنورة قابلة للتطور والتلاؤم مع العصر، يلعب دوراً كبيراً في نقل الوعي للمجتمعات الحالية . ان تعذر إمكانية إنشاء تنظيمات ليبرالية حالياً في ظل الأنظمة الشمولية، يعني إعطاء الأولوية لممارسة الدعوة لليبرالية على المستوى الفكري والثقافي في الأطر والهوامش المتاحة، مع استمرار الحوار بين جميع أطراف التيار لتحديد أهداف ومناهج وأساليب واضحة ومحددة.
******************
نزار قاسم محمد
لقد كان معظم مراقبي السياسات الدولية في النصف الثاني من القرن المنصرم يؤمنون بما كان يتصدر جميع برامج وبيانات دول الكتلة الشرقية والأحزاب الشيوعية في العالم من تأكيد على أن سمة العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية . أما بعد انهيار الكتلة فإن غالبية كبيرة تؤكد أن سمة العصر هي انتقال دول العالم إلى الليبرالية، أي الأسلوب الديمقراطي في المجال السياسي وآليات السوق الحر في المجال الاقتصادي وحقوق الإنسان كما جاءت في المواثيق الدولية في المجال الإنساني الاجتماعي والثقافي. الا ان هناك عدداً محدوداً من الدول
تتناقص أعدادها باطراد ، لا تزال تتشبث بالمناهج والمفاهيم القديمة في مواجهة التيار الجارف للانتقال لليبرالية ربما في محاولة لتأخير انهيار أنظمتها. وإذا كان ممكناً في "العصر الاشتراكي" لبعض الدول أن تستمر بمعزل عن التطور العالمي، ففي ظل النظام العالمي الجديد، فإن انعزال الدول الشمولية عن مجتمع دولي يترابط باستمرار، ممكن فقط بنقل دولهم إلى كوكب آخر، وهو أمر من رابع المستحيلات. ان الذرائع لعدم الالتحاق بركب الحداثة في مجتمعاتنا، هي رفض الحضارة الغربية برغم أنها أثبتت نجاحها في إيجاد السبل لحل المشكلات البشرية ورفع درجة معيشة الإنسان على الكوكب في مجالات لا يمكن انكارها، فتهمة التغريب تخفي رفض الآخر الإنساني المتقدم واعتباره عدواً: معسكر الكفر للإسلاميين المتطرفين، والرأسمالية المتوحشة للاشتراكيين، والإمبريالية للقوميين والوطنيين المتطرفين. فالتغريب الوحيد المقبول هو استهلاك المنتجات التكنولوجية للغرب مع رفض اقتباس المناهج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سمحت بإنتاجها لفائدة البشرية.
ان الليبرالية أسلوب في الحياة لا يقتصر على الجانب الاقتصادي كما يحاول أن يصوره البعض، كما لا يقتصر على الجانب السياسي كما يعتقد البعض الآخر، وهي ليست أيديولوجيا مسبقة يسعى معتنقوها لهندسة المجتمعات حسب نصوصها، بل هي برامج متطورة في شتى المجالات تتعامل بعقلانية مع الوقائع القائمة على أساس تحقيق المصلحة الإنسانية المتوازنة، في ظل حريات واسعة فردية وجماعية وتعددية، وحوار للتوصل لمصالح مشتركة. والتيار الليبرالي لا يجمعه حزب واحد أو برنامج سياسي واحد بل برامج يجمعها التمسك بالحريات
والانفتاح على الآراء المتنوعة ورفض الأيديولوجيات الجامدة والأصوليات المتخلفة فالنموذج الذي تسعى للاقتراب منه هو المجتمعات الحديثة، مجتمعات الحريات وحقوق الإنسان والسلم
والوفرة والتنمية البشرية والمادية والمعرفية. لا يمكن الفصل بين الجانبين الاقتصادي السياسي
لليبرالية، إذ أن الأخذ بديمقراطية سياسية مع استمرار اقتصاد الدولة يتناقض مع الوقائع، الليبرالية السياسية تعني أن من حق الأغلبية في المجالس التشريعية سن القوانين التي تؤمن حرية السوق والمبادرة الفردية والمنافسة الحرة، التي ثبت أنها المحرك الأساسي للتقدم الذي يشمل الجميع. كما أنه لا يمكن الأخذ بليبرالية اقتصادية في ظل نظام سياسي شمولي يعيق
التطور الاقتصادي ويحصره في صالح القلة المحتكرة للسلطة. والليبرالية لم تعد المنهج السياسي والاقتصادي للطبقة الرأسمالية الصناعية والتجارية والمالية، كما كانت عند نشأتها في القرن التاسع عشر عندما كانت الحريات السياسية محدودة وحق الاقتراع محصوراً في الطبقات
العليا للمجتمع، وهي الفترة التي يعود إليها اشتراكيون معاصرون ليدّعوا أن الليبرالية تعمل لمصلحة الطبقة البرجوازية التي تنتفع من الحريات لزيادة هيمنتها على الثروة والسلطة،كما أن مرحلة طويلة من النضال السياسي والاجتماعي والنقابي بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين مكنت الفئات ذات الدخل المحدود من الحصول على حقوقها السياسية
والاجتماعية بحيث أصبحت الحريات مصلحة عامة للمجتمع بأسره وأداة للوصول للحقوق
الاجتماعية وليس إلغاء الليبرالية لمصلحتها،والليبرالية لم تعد تترك الفرد دون حماية من استغلال القوى الاقتصادية، بينما في ظل "رأسمالية الدولة" تنعدم إمكانية احتجاج أكثريةالمجتمع على أوضاعها البائسة. ان جزءاً من المعارضة الحالية للأنظمة الشمولية ما زال يعارض التحول لليبرالية ويعادي رموزها ولفهم هذا الموقف نرى ان هذه القوى لا تزال تتمسك بثوابت قديمة مع تجاهل المتغيرات المحلية والعالمية كتأييد القطاع العام مع إصلاحه –المستحيل عملياً- اوالاحتفاظ بالقطاع العام وتأييد دور القطاع الخاص. وتفضل هذه المعارضة المفاهيم السابقة بحجة انها اكثر قبولاً في مجتمعات متأخرة خضعت لعقود من التجهيل المدعوم بالقمع وذلك لكي يتخلوا عن الدور التنويري المنوط بها لنشر الأفكار والمناهج الحديثة في الأوساط الشعبية حتى لو تعارضت مع المفاهيم المتخلفة السائدة ، وهي مهمة عسيرة لكنها ممكنة والمستقبل أمامها. وهي المهمة التي يسعى التيار الليبرالي لتحمل مسؤوليتها وإنجازها بالوسائل السلمية والعلنية في إطار التعددية، دون التعارض العدائي مع المعارضة الديمقراطية القديمة، بحيث يمكن أن يحدث تأثيراً في صفوفها لتوليد ليبراليين وإسلاميين وحتى اشتراكيين ليبراليين . يمكن للتيار الليبرالي أن يكتسب شرعية من كونه تياراً واقعياً نهضوياًً يرى أن الحرية الحاجة الأولى للإنسان وحدود الوطن هي حدود المواطن الحر، وأن معيار الوطنية مدى احترام حقوق الإنسان وليس السياسة الخارجية، وأن العلمانية الإطار الذي يجمع المكونات الطائفية المختلفة، وأن القومية لا تعني تذويب وتعريب وتهجير الشعوب المتعايشة مع العرب، فيرى تأييد حقوقها القومية والثقافية، ويسعى للسلام القائم على إنهاء الحروب التي استنفدت موارد المنطقة، ويتخذ موقفاً عقلانياً من العولمة لتعزيز جوانبها الإنسانية والتقليل من تأثير جوانبها السلبية، ولا يرى في الغرب شراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً بل سياسات متعددة ومتغيرة يقبل ما هو في مصلحة المنطقة منها ويرفض ما يضر بها، ويؤيد التلازم بين اقتصاد السوق الحر والديمقراطية السياسية، ويعمل لضمانات اجتماعية لذوي الدخل المحدود ويضع التنمية على رأس أولوياته من أجل مجتمعات عصرية قوية تساهم بنصيبها في الحضارة العالمية.
ان المستقبل لليبرالية في المنطقة ولا يمكن الخشية من عدم تقبل المجتمعات المتخلفة أفكار الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فوجود نخب متنورة قابلة للتطور والتلاؤم مع العصر، يلعب دوراً كبيراً في نقل الوعي للمجتمعات الحالية . ان تعذر إمكانية إنشاء تنظيمات ليبرالية حالياً في ظل الأنظمة الشمولية، يعني إعطاء الأولوية لممارسة الدعوة لليبرالية على المستوى الفكري والثقافي في الأطر والهوامش المتاحة، مع استمرار الحوار بين جميع أطراف التيار لتحديد أهداف ومناهج وأساليب واضحة ومحددة.
******************
No comments:
Post a Comment