الاحداث في مصر..... وسلوك الجماهير
بقلم
نزار قاسم محمد
السلوك الجماعي مصطلح في علم الاجتماع يشير إلى كيفية سلوك الأفراد عندما يكونون في حُشود جماهيرية كبيرة غير منظمة نسبيًا. ومن أمثلة هذا السلوك الوَلَع الذي يستحوذ على الجماهير فترة مؤقتة من الزمن ثم يمضي ، وكذلك الرعب أو الهلع ، والشغب. وينشأ هذا السلوك الجماعي عادة في المواقف التي تثير عواطف الناس كالمنافسات الرياضية، ومظاهرات الاحتجاج ، والكوارث. يتصف معظم السلوك الجماعي بالتهوُّر، ولا يكون مخطَّطًا له، كما أنه لايستغرق وقتًا طويلاً. بناءً على ذلك ، فإنه يختلف عن أنماط السلوك التي يمكن التنبؤ بها والتي تدوم فترات طويلة، مثل تلك التصرفات التي تقوم بها المجموعات الرياضية، والأندية الاجتماعية. لكننا نجد أن بعض أنواع السلوك الجماعي توافق نمط الهياكل الاجتماعية المنظمة؛ فعلى سبيل المثال، نجد أن الأحزاب السياسية المنظمة أو الحركات الاجتماعية قد تستخدم التظاهرات الجماهيرية وسيلة لإحداث تغيير اجتماعي تكون قد خطَّطت له. ان هناك تغيراً ملحوظاً يطرأ على سلوك الأفراد وقت تجمهرهم واجتماعهم في مكان معين خصوصاً عندما يتسم سلوكهم بصفات غريبة تختلف كل الاختلاف عن الصفات الاعتيادية التي تميز سلوكهم عندما يكونون في حالة استقلال وانفراد. فسلوك الأفراد المتجهمرين يتسم عادة بالطابع الانفعالي والعاطفي وذلك لما يقومون به من أعمال شاذة وغريبة لا يقومون بها عادة في حياتهم الاعتيادية كأعمال العنف والصياح والركض ... الخ.
ان النظريات التي تفسر السلوك الجمعي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
1- النظريات التي تفسر السلوك الجمعي على أساس الانتقال السريع للأفكار والخواطر والشعور والمزاج بين أعضاء الجمهور دون أي تفكير أو اعتراض أو تلكؤ من قبلهم .
2- النظريات التي تفسر السلوك الجمعي على أساس تكتل الأفراد فيما بينهم لتشابه ميولهم وأفكارهم وأهدافهم.
3- النظريات التي تعتقد بأن السلوك الجمعي يعتمد على مقياس اجتماعي يظهر في حالات معينة.
ما سر التغيير الملحوظ الذي يطرأ على سلوك الأفراد وقت تجمهرهم ؟ ولِمَ يقوم البعض بأفعال غريبة وشاذة ، غير تلك التي عهدناها منهم في سياقات حياتهم الاعتيادية ؟ وما سبب ما نراه لديهم من سهولة الاستثارة والهياج والاندفاع وراء الشغب والعنف والصياح . إن سلوك الجماعة في المواقف المثيرة ربما يكون ناجماً عن ظهور (عقل جمعي) يسبغ تفاعل الناس بصفة الجمعية . وهذا العقل إن جاز التعبير ، يعد قوة مهيمنة على كل فعاليات الجمهرة أي إن الناس عند تفاعلهم وبفعل قوة الايحاء يفقدون استقلالهم الذاتي وشعورهم بأنهم افراد مستقلون ، فيندمجون وينصهرون في كلٍ تهيمن عليه هذه الروح أو العقل الجمعي ، وتملي على الاعضاء فيه سلوكهم . وهذا العقل ، يعد ناقصاً قياساً بعقل الفرد عندما يكون منفرداً.
وتفيد الدراسات، بأن مواقف السلوك الجمعي تخضع للتلقائية واللاتخطيط ، بمعنى إنها تتسم بالنقص النسبي في التنظيم قياساً بمظاهر السلوك الفردي المنضبط ، فضلاً عن إنها تعتمد على التنبيه الداخلي المتبادل بين الأفراد ، والمتميز بسرعة تقبل الإيحاء والمحاكاة ومسايرة سلوك الرهط والخضوع لعقله الجمعي، وبخاصة عندما تسود الجماهير حالة هياج انفعالي ناشئة عن حدوث أو توقع حدوث كارثة أو حدث خطير يمس الجميع ، أو عن الاعتقاد بأن أعراف وتقاليد معينة مهددة بالإساءة اليها (مع الانتباه الى أن أفراداً عديدين من بين تلك الحشود، ربما يمارسون أشكالاً متنوعة وخروقات عديدة للمبادىء ذاتها التي استفز توقع المساس بها مشاعر الجماهير).
ان مسألة زعامة الجمهرة هي الأخرى مسألة نسبية وغير مستقرة كحال الجماهير. فالعديد من حالات الجمهرة تنشأ تلقائياً بفعل موقف مثير يؤلف بين الافراد ، مثلاً: رد فعل جمهرة معينة تجاه الاضطهاد أو هدر حقوق معينة دون زعيم يقودها أو يوجهها ، وقد ينهض من بين الصفوف على حين غرة زعيم يحاول تـنظيم صفوفها وتوجيه حركتها . لكن سمة الجمهرة هي عدم الاستقرار. فقد ينهض زعيم آخر يضلها عن هداها وربما يسوقها الى رداها وقد يختلط الأمر بينهما فيختفيان فجأة بين الحشد ويبتلعهم التيار وتمسي الجمهرة كما بدأت دون زعيم.
إن تجارب ومعاناة الفرد المكبوتة عبر سنين حياته لا تستقر في عالمه الداخلي بوصفها أرشيفاً تاريخيا ً، بل ثمة طاقة نفسية مصاحبة لكل حدث أو تجربة تتداخل فيما بينها وتتفاعل فتعبر عن نفسها بأشكال سلوك جديدة غير مألوفة حتى بالنسبة للفرد ذاته . تلك الطاقة النفسية ، ربما تدفع الفرد أحيانا ً، وحتى عندما يكون خارج الرهط ، الى الشعور بحاجة ماسة لمشاركة الرهط أفعاله ، فالإنسان يكره العزلة المعنوية أكثر من العزلة المادية ، والحالات الانفعالية تبتغي لها التأييد ، بمعنى إنها تريد أن يتوزعها الناس. فحالات غضبنا مثلاً، لا تجد الطمأنينة إلا إذا لقيت من حكم الغير إقراراً بها ، بمعنى محاولة دسها في أذهان السامعين ليصبح الإقرار بها لزاماً على أنها ليست عواطفنا فحسب بل هي حقيقة تصلح للجميع وتلزم الجميع. إن الحالات الانفعالية في السلوك الجماهيري لها عدوى متفاوتة في درجة الحدة ، إلا أنه كلما كان المحيط مؤتلفاً وإياها ومؤيداً لها ، وكلما كانت مشاركته فيها واضحة وصريحة ، ازداد عنفوان الهيجان ، وتحررت الطاقة النفسية بقوة وبتيار عاليين وبدون ذلك المحيط ، وبدون تلك المشاركة ، لا يحقق الهيجان جميع كوامن إمكاناته الذهنية والحركية.على ذلك فالقاعدة تقول:إن هيجاناتنا تولد ولها تأريخ طويل ، وتكبر وتترعرع في محيط بشري يغذيها بالاضطراب الذي حملته هي إليه. يبدو لي ان كل ذلك لم تعيه القيادات المصرية اثناء تعاملها مع التظاهرات الاحتجاجية ولم تكن موفقة في التعامل معها والنتيجة الحتمية كما رأينا ازدياد سقف المطالب الى ما لا نهاية .... وأخيراً فهذه محاولة هادئة وحيادية لتفسير ما حدث في مصر .
*******************
بقلم
نزار قاسم محمد
السلوك الجماعي مصطلح في علم الاجتماع يشير إلى كيفية سلوك الأفراد عندما يكونون في حُشود جماهيرية كبيرة غير منظمة نسبيًا. ومن أمثلة هذا السلوك الوَلَع الذي يستحوذ على الجماهير فترة مؤقتة من الزمن ثم يمضي ، وكذلك الرعب أو الهلع ، والشغب. وينشأ هذا السلوك الجماعي عادة في المواقف التي تثير عواطف الناس كالمنافسات الرياضية، ومظاهرات الاحتجاج ، والكوارث. يتصف معظم السلوك الجماعي بالتهوُّر، ولا يكون مخطَّطًا له، كما أنه لايستغرق وقتًا طويلاً. بناءً على ذلك ، فإنه يختلف عن أنماط السلوك التي يمكن التنبؤ بها والتي تدوم فترات طويلة، مثل تلك التصرفات التي تقوم بها المجموعات الرياضية، والأندية الاجتماعية. لكننا نجد أن بعض أنواع السلوك الجماعي توافق نمط الهياكل الاجتماعية المنظمة؛ فعلى سبيل المثال، نجد أن الأحزاب السياسية المنظمة أو الحركات الاجتماعية قد تستخدم التظاهرات الجماهيرية وسيلة لإحداث تغيير اجتماعي تكون قد خطَّطت له. ان هناك تغيراً ملحوظاً يطرأ على سلوك الأفراد وقت تجمهرهم واجتماعهم في مكان معين خصوصاً عندما يتسم سلوكهم بصفات غريبة تختلف كل الاختلاف عن الصفات الاعتيادية التي تميز سلوكهم عندما يكونون في حالة استقلال وانفراد. فسلوك الأفراد المتجهمرين يتسم عادة بالطابع الانفعالي والعاطفي وذلك لما يقومون به من أعمال شاذة وغريبة لا يقومون بها عادة في حياتهم الاعتيادية كأعمال العنف والصياح والركض ... الخ.
ان النظريات التي تفسر السلوك الجمعي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
1- النظريات التي تفسر السلوك الجمعي على أساس الانتقال السريع للأفكار والخواطر والشعور والمزاج بين أعضاء الجمهور دون أي تفكير أو اعتراض أو تلكؤ من قبلهم .
2- النظريات التي تفسر السلوك الجمعي على أساس تكتل الأفراد فيما بينهم لتشابه ميولهم وأفكارهم وأهدافهم.
3- النظريات التي تعتقد بأن السلوك الجمعي يعتمد على مقياس اجتماعي يظهر في حالات معينة.
ما سر التغيير الملحوظ الذي يطرأ على سلوك الأفراد وقت تجمهرهم ؟ ولِمَ يقوم البعض بأفعال غريبة وشاذة ، غير تلك التي عهدناها منهم في سياقات حياتهم الاعتيادية ؟ وما سبب ما نراه لديهم من سهولة الاستثارة والهياج والاندفاع وراء الشغب والعنف والصياح . إن سلوك الجماعة في المواقف المثيرة ربما يكون ناجماً عن ظهور (عقل جمعي) يسبغ تفاعل الناس بصفة الجمعية . وهذا العقل إن جاز التعبير ، يعد قوة مهيمنة على كل فعاليات الجمهرة أي إن الناس عند تفاعلهم وبفعل قوة الايحاء يفقدون استقلالهم الذاتي وشعورهم بأنهم افراد مستقلون ، فيندمجون وينصهرون في كلٍ تهيمن عليه هذه الروح أو العقل الجمعي ، وتملي على الاعضاء فيه سلوكهم . وهذا العقل ، يعد ناقصاً قياساً بعقل الفرد عندما يكون منفرداً.
وتفيد الدراسات، بأن مواقف السلوك الجمعي تخضع للتلقائية واللاتخطيط ، بمعنى إنها تتسم بالنقص النسبي في التنظيم قياساً بمظاهر السلوك الفردي المنضبط ، فضلاً عن إنها تعتمد على التنبيه الداخلي المتبادل بين الأفراد ، والمتميز بسرعة تقبل الإيحاء والمحاكاة ومسايرة سلوك الرهط والخضوع لعقله الجمعي، وبخاصة عندما تسود الجماهير حالة هياج انفعالي ناشئة عن حدوث أو توقع حدوث كارثة أو حدث خطير يمس الجميع ، أو عن الاعتقاد بأن أعراف وتقاليد معينة مهددة بالإساءة اليها (مع الانتباه الى أن أفراداً عديدين من بين تلك الحشود، ربما يمارسون أشكالاً متنوعة وخروقات عديدة للمبادىء ذاتها التي استفز توقع المساس بها مشاعر الجماهير).
ان مسألة زعامة الجمهرة هي الأخرى مسألة نسبية وغير مستقرة كحال الجماهير. فالعديد من حالات الجمهرة تنشأ تلقائياً بفعل موقف مثير يؤلف بين الافراد ، مثلاً: رد فعل جمهرة معينة تجاه الاضطهاد أو هدر حقوق معينة دون زعيم يقودها أو يوجهها ، وقد ينهض من بين الصفوف على حين غرة زعيم يحاول تـنظيم صفوفها وتوجيه حركتها . لكن سمة الجمهرة هي عدم الاستقرار. فقد ينهض زعيم آخر يضلها عن هداها وربما يسوقها الى رداها وقد يختلط الأمر بينهما فيختفيان فجأة بين الحشد ويبتلعهم التيار وتمسي الجمهرة كما بدأت دون زعيم.
إن تجارب ومعاناة الفرد المكبوتة عبر سنين حياته لا تستقر في عالمه الداخلي بوصفها أرشيفاً تاريخيا ً، بل ثمة طاقة نفسية مصاحبة لكل حدث أو تجربة تتداخل فيما بينها وتتفاعل فتعبر عن نفسها بأشكال سلوك جديدة غير مألوفة حتى بالنسبة للفرد ذاته . تلك الطاقة النفسية ، ربما تدفع الفرد أحيانا ً، وحتى عندما يكون خارج الرهط ، الى الشعور بحاجة ماسة لمشاركة الرهط أفعاله ، فالإنسان يكره العزلة المعنوية أكثر من العزلة المادية ، والحالات الانفعالية تبتغي لها التأييد ، بمعنى إنها تريد أن يتوزعها الناس. فحالات غضبنا مثلاً، لا تجد الطمأنينة إلا إذا لقيت من حكم الغير إقراراً بها ، بمعنى محاولة دسها في أذهان السامعين ليصبح الإقرار بها لزاماً على أنها ليست عواطفنا فحسب بل هي حقيقة تصلح للجميع وتلزم الجميع. إن الحالات الانفعالية في السلوك الجماهيري لها عدوى متفاوتة في درجة الحدة ، إلا أنه كلما كان المحيط مؤتلفاً وإياها ومؤيداً لها ، وكلما كانت مشاركته فيها واضحة وصريحة ، ازداد عنفوان الهيجان ، وتحررت الطاقة النفسية بقوة وبتيار عاليين وبدون ذلك المحيط ، وبدون تلك المشاركة ، لا يحقق الهيجان جميع كوامن إمكاناته الذهنية والحركية.على ذلك فالقاعدة تقول:إن هيجاناتنا تولد ولها تأريخ طويل ، وتكبر وتترعرع في محيط بشري يغذيها بالاضطراب الذي حملته هي إليه. يبدو لي ان كل ذلك لم تعيه القيادات المصرية اثناء تعاملها مع التظاهرات الاحتجاجية ولم تكن موفقة في التعامل معها والنتيجة الحتمية كما رأينا ازدياد سقف المطالب الى ما لا نهاية .... وأخيراً فهذه محاولة هادئة وحيادية لتفسير ما حدث في مصر .
*******************
No comments:
Post a Comment