الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية.. في الميزان
نزار قاسم محمد
ان ما يعنيه الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية هو فتح أسواقنا أمام بضائع دولها الأعضاء ودخول منتجاتنا إلى أسواقهم مع التقيد بأنظمتهم ومعاييرهم ، فإلى أي حد يعتبر اقتصادنا قادراً على الدخول في هكذا منافسة , وما هي متطلبات الانضمام للمنظمة وما تأثير حصولنا على عضويتها . عملياً , تعتبرالمنظمة هي مجموعة من الدول العالمية التي بينها ميثاق لانسياب السلع والمواد الأولية وأموال الاستثمارات ، ولا توجد قواعد ثابتة لانضمام أي دولة فهي مثل بصمات الإصبع تختلف من دولة لأخرى فهناك دولة اهتماماتها زراعية وأخرى صناعية , وأخرى سياحية أو متعلقة بالخدمات ، وبالتالي تأخذ أي دولة فترة انتقالية للانضمام للمنظمة , وهذه الفترة مخصصة لإزالة الحواجز والعراقيل والتخفيف من السياسات الحمائية تجاه الأمور الهامة لاقتصادها . و لنأخذ مثلين هما مصر وتونس: مصر بدأت التفاوض في الثمانينيات وكانت تريد إزالة الحواجز عن 59 سلعة فقط , أما تونس فتأخرت عنها سنتين فاختلفت الظروف , وبالتالي أزالت الحماية عن كل السلع والمنتجات فيما عدا بضع سلع ، أما نحن فقد اتخذنا قرارنا الاستراتيجي بالانضمام وهذا الموضوع أصبح لا رجوع عنه , وسننضم إلى مجموعة دولية تشمل أغلب دول العالم إن لم نقل جميعها ، وتلعب قدراتنا التفاوضية دوراً في الانضمام وموقع البلد واستعداده لمناقشة بعض الأمور التي كانت ضمن الأمور التي كانت لا تبحث أبداً .
أن العنوان الأبرز للمرحلة القادمة عند الانضمام إلى المنظمة هوخروج العديد من الصناعات المحلية من السوق وذلك بسبب انخفاض الإنتاجية وانخفاض المستوى التكنولوجي كما أن تخفيض الرسوم الكمركية وتثبيتها مع الأطراف المفاوضة سيكون له آثار سلبية على حصيلة ايرادات الدولة الا ان اعتماد اقتصادنا على النفط بصورة أساسية ( وهو أمر غير سليم ) فان ذلك لن يؤثر على موارد الخزينة في الوقت الحاضر ولكن علينا التفكير في هذه المسألة عند تنويع موارد الاقتصاد . إن الالتزامات الناجمة عن حقوق الملكية الفكرية ستولد أعباءاً جديدة على الاقتصاد بسبب ارتفاع تكلفة هذا النشاط , وخاصة ما يتعلق ببراءات الاختراع ويبدو أن الصناعة الدوائية ستكون أكثر المتأثرين ، وسيرتبط تحرير التجارة الدولية بتكلفة اجتماعية مرتفعة متمثلة بزيادة معدلات البطالة وخاصة بين الفئات ذات التأهيل المنخفض والمتوسط والتجربة تؤكد أن تحرير التجارة والاستثمار ليست آليات لخلق الوظائف بل هي آليات لوظائف أفضل وأكبر مردود .
أما بالنسبة لواقع صناعاتنا في ظل الانضمام الى منظمة التجارة العالمية فاننا نعتقد ان الصناعة أُفسدت بالتصدير السهل لدول منظومة الاتحاد السوفييتي سابقاً والدول الصديقة التي لا تهتم بالجودة أو المواصفات , وكانت تلك الدول متعطشة لكل المنتجات ، أما الآن فقد أصبحت جميع الأسواق انتقائية سواءاً في الدول المجاورة أو الدول الخليجية أو العربية ودول أوروبا الشرقية , وهناك مواصفات يجب مراعاتها وأذواق وألوان يجب اتباعها بالإضافة إلى المنافسة السعرية ، فإذا تحدثنا عن الجودة المتوسطة , الصين تنتج بجودة متوسطة لكن بأسعار تقترب من الصفر بحيث لا نستطيع الوقوف أمامها كمنافسة سعرية . أن السياسات الحمائية التي اتبعتها الدولة للصناعات المحلية - الصالح منها والطالح - لاعتمادها عليها في تغطية الحاجات المحلية ولتكفي البلد حاجته من العملة الصعبة , لم تدع الصناعات العراقية تقف على قدميها بشكل جيد لأن استمرار الدعم يعني استمرار الاعاقة , والآن عندما نتركها تسير وحدها يمكن أن تتعثر وتقع.. أي أن هناك نسبة من المنشآت الصناعية ستغلق بسبب عدم إمكانيتها للمنافسة وعجزها عن السير بدون مساعدة , وهناك نسبة أخرى لا خوف عليها على الإطلاق , والسواد الأعظم من المنشآت يقع في المنتصف (إما يحتاج لدفعة للوصول إلى الأعلى أو إذا جاءته مصيبة سينحدر للأسوأ) , وهذا أمر هام وأساسي لأن أي إغلاق لمنشأة يتبعه حالة ذعر خاصة أننا نعاني من بطالة نسبتها كبيرة . ويجب ألا نزيد الطين بلة , وعندما نتحدث عن صرف عامل يعني هذا جوع عائلة بأكملها فالوضع حرج ولا يحتمل التجارب على طريقة صح أو خطأ ، ويجب أن يكون مخططاً له ومدروساً بعناية قبل التطبيق ، وهذا سبب اصرارنا على فترة انتقالية يجب أن تترافق مع حملة حكومية تساعد على أخذ الصناعات الناشئة إلى بر الأمان بحيث تمر الفترة الانتقالية بخير, وهذه الفترة يمكن أن تمدد سنوات أخرى بحيث تمر صناعات معينة وتبقى أخرى حسب وضع السوق والمعطيات الدولية.
لعل السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف نستطيع المنافسة بعد دخولنا لمنظمة التجارة العالمية ؟ يمكن أن ننافس بالنوعية والجودة وبأسعار الشحن من العراق لأوروبا فنحن أقرب من الصين لأوروبا ، ولا ننسى أن نأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن لأن زمن التسليم والشحن أي وصول السلعة في موسمها أمر أساسي لدى المستهلك الأوروبي. رغم أن الانضمام إلى المنظمة يعني مزيداً من الانفتاح , يجب ان لا نعتقد أن السوق المنفتح يعني السوق المنفلت وهذا ليس صحيحاً !.. فحتى الولايات المتحدة الأميركية أكثر الدول انفتاحاً تتدخل كي تصحح تشوهات السوق , كما في الفولاذ وصناعة السيارات ومساعدة زراعات مثل القطن , أي أن السوق المفتوح له ضوابط تضعها الدولة.. وخاصة أن سوقنا ما يزال غير ناضج كفاية حتى تؤدي سياسات العرض والطلب نتيجتها المطلوبة وأي خطأ سيؤثر على ذوي الدخل المحدود , وإزالة الدعم عن بعض السلع الغذائية أو الوقود ستؤثر على هذه الشريحة ، وما زال السوق بحاجة إلى فترة انتقالية ليصبح نامياً وناضجاً ولتتحدد قوى الشد والجذب وليقف على قدميه بشكل جيد.
أن الإيجابيات المتوقعة على الاقتصاد نتيجة الانضمام للمنظمة تتوقف على ركيزة أساسية هي القدرة التنافسية , وبدون نموها وتطورها المستمر لا توجد إيجابيات تذكر..لكن تخفيض الرسوم الكمركية وإلغاء القيود الكمية على التجارة الدولية تشكل فرصة للمنتجات العراقية المختلفة للنفاذ إلى الأسواق العالمية ويمكن أن يؤد\ي ذلك الى زيادة كفاءة استخدام الموارد المحلية مع التركيز على القطاعات التي تحقق قيمة مضافة عالية حيث يمكن لقطاع المنسوجات والملابس ، إذا ما حولنا القطن والصوف إلى ملبوسات تامة الصنع ، كي نحقق قيمة مضافة عالية وكفاءة تنافسية جيدة , وإلا فالهند والصين وتايوان وهونغ كونغ والفلبين وتركيا ودول شرق أوروبا ستكون منافسة قوية لنا في هذا المجال ، ويمتلك البلد إمكانيات سياحية كبيرة وقطاع واسع لشركات الإنشاءات العامة ويمكن إعادة هيكلتها وتعزيز قدرتها التنافسية وبالتالي يمكن أن تحقق بعض المكاسب في قطاع الخدمات ، ومن ايجابيات الانضمام أن العضوية تتيح إمكانية عدم التعرض لخطر فرض عقوبات اقتصادية علينا مستقبلاً . ولابد من أجل الاستعداد للانضمام إلى المنظمة من اتباع استراتيجية تنمية شاملة زراعية صناعية خدماتية تعتمد أساساً على المجالات التي تحقق قيمة مضافة عالية , وتعزز بالتالي الكفاءة التنافسية لاقتصادنا ، و يتوجب أيضاً معالجة بعض القضايا الحساسة مثل إعادة النظر بالإنتاج الزراعي وتحسين النوعية وتخفيض التكلفة ورفع المردود والاعتناء بالتصنيع والتعبئة والتغليف بهدف رفع قدرة النفاذ للسلع الزراعية للأسواق الخارجية وذلك في إطار خطة شاملة بالإضافة إلى متابعة تحديث القوانين والأنظمة والتشريعات بما يتلاءم مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية وبما ينسجم مع متطلبات الانضمام للمنظمة , ونشر الوعي التجاري للمنتجين والمصدرين والمستهلكين عبر الندوات والمؤتمرات , والاستفادة من دروس وخبرات الدول الأعضاء في المنظمة وخاصة التي حصلت على العضوية مؤخراً من ناحية سير المفاوضات وتقديم الالتزامات والاستفادة التامة من المساعدات الفنية التي تقدمها الأمم المتحدة وغيرها من الجهات التي تدعم تهيئتنا للدخول للمنظمة.
يشكل الدخول إلى منظمة التجارة العالمية تحدياً لاقتصادنا الذي ما يزال متأخراً على سلم التنافسية رغم وجود ايجابيات كثيرة لهذه العضوية ، ومن الضروري بمكان تعزيز قدرتنا التنافسية كي نكون قادرين على مواجهة سيل السلع والخدمات التي ستتدفق على سوقنا المحلية بتوقيع الاتفاقية وانتهاء الفترة الانتقالية.. وهنا لا بد من إعادة النظر بماهية صادراتنا وإقامة شركات تسويق خارجية وإعادة هيكلة صناعاتنا والاستفادة من الميزات النسبية لاقتصادنا ومن إمكانياته, وذلك كي لا يكون أعضاء المنظمة هم الرابحون من انضمامنا ونحن الخاسرون..
********************